هل هو أبو الهول في مصر، أم جامع الزيتونة في تونس، أم تمثال الحرية في نيو يورك، او برج أيفل في باريس ؟ لا، إنه في موريتانيا، إنه المعهد العالي للتعليم التكنولوجي في روصو. جوهرة تغفو على ضفاف نهر السنغال
بغلاف مالي يزيد على 4 مليارات أوقية، صرفت كلها من الخزينة العامة للدولة، وطاقم فني موريتاني بالكامل. أنجز المعهد العالي للدراسات التكنولوجية
مهندسون جلهم من الشباب، عملوا على نجاح المشروع، رافعين بذلك تحديا كبيرا، فقد كثر المثبطون والمشككون في قدرتهم على إنجاز المهمة.
أنجز المشروع في ظرف وجيز، شيدت أركانه بأيد موريتانية، وأموال موريتانية، وطاقم تدريس وطني
دشن المعهد يوم عرفة من قبل الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز، حيث عقد اجتماعا مع المزارعين، ومؤتمرا صحفيا في إحدى قاعاته
جاب الرئيس جميع فروع المعهد المتباعدة رفقة الوفد الرئاسي مشيا على الأقدام. قال لي أحد الصحفيين المرافقين إن الرئيس كان صائما ذلك اليوم
قدموا له جميع أنواع الشروح، لكنني لا أظنه سألهم عن لغة التدريس.
أنجز المعهد "الجوهرة" بمجهود ذاتي، في دولة جل منشآتها تحمل أسماء خارجية، ومعظم طلابها يدرسون في الخارج.
دولة مسجدها الجامع يسمى "المسجد السعودي"، ولديها "مسجد المغرب"، و"مسجد قطر".
قصر المؤتمرات، والميناء، ودار الثقافة، والملعب الأولومبي، ورئاسة الجمهورية، كلها إنجازات صينية.
المدارس الابتدائية صممت بهندسة معمارية يابانية، وكذلك ميناء الصيادين بنواكشوط، والمدرسة البحرية في نواذيبو.
دولة كانت لديها طائرتان، إحداهما هدية من الرئيس عمر بونغو مع المدرسة العليا للأساتذة، والأخرى من دولة قطر، سافرت إلى باريس، ثم اختفت هنالك في ظروف غامضة، مؤذنة بإفلاس الخطوط الجوية الموريتانية.
البنك الليبي، والثانوية العربية، ولافتة كبيرة على شارع جمال عبد الناصر تحمل صورة فندق بخمسة نجوم، أنجزت بأمر من القذافي
التلفزيون هدية من العراق، والمستشفى العسكري كذلك والمدرعات.
لدينا مستشفيات صباح، ولوزة، وغيرهم كثير.
وحده المعهد العالي للدراسات التكنولوجية كاد أن يكون انجازا موريتانيا خالصا
أول ما يعجبك في المعهد هو الحدائق الغناء، والمزارع، والمجاري، والجداول، كأنه فندق خمسة نجوم. حدائق ذكرتني بحدائق الميريديان (Méridien Président) في داكار.
حدائق غناء
في المعهد مطعم، ومساكن للطلاب مع جناح خاص بالبنات، ومنازل للأساتذة، وورشات للبناء والصناعة والتصميم حيث صممت منازل نموذجية لذوي الدخل المحدود
يضم المعهد مصنعا حديثا للألبان، وأراضي مستصلحة ومروية للزراعة وأخرى قيد الاستصلاح.
في المعهد مسجد في مبنى أنيق وبدون منارة، إمامه شاب مهذب، غير ملتح، ويلبس الجينز، يتميز بفصاحة النطق وحسن الأداء القرءاني، مذهبه القبض، صلى بالناس صلاة المغرب، ثم انصرف.
استقبل المعهد أول دفعة من الطلاب هذه السنة تم اكتتابهم عن طريق مسابقة، عددهم يزيد على المئة، ربعهم طالبات، يدرسون في فصل واحد يسمونه السلك المشترك (tronc commun)، يضم جميع التخصصات التي من بينها الزراعة، و البناء، والتغذية، والصناعة، والمعلوماتية..
يبدأ التخصص في السنة الثانية للدراسة، ومدتها خمس سنوات بالنسبة للمهندسين، وثلاث بالنسبة للفني
أخبرني أحد الأساتذة أن المعهد لديه موقع على الانترنت، فسجلت العنوان : www.iset.mr
يتضمن الموقع معلومات قيمة، لكن الكثير من الصفحات معطلة أو قيد الانجاز، خاصة في النسختين العربية والانجليزية، مع خطإ في كتابة اسم المعهد باللغة الفرنسية، حيث كتبت بالجمع في محل مفرد هكذا :
(Institut Supérieur d’ Enseignement Technnologiques)
وقف المصلون أمام باب المسجد في انتظار صلاة المغرب، يبدو أنهم قادمون من أقسام الدراسة للتو.
قال الطلاب إنهم جد مرتاحين لظروفهم وإنهم سعداء. "الدراسة جيدة، الأساتذة مقتدرون، والسكن مريح والطعام جيد، وليست لدينا أية مشكلة، والحمد لله."
قالت إحدى الطالبات : لا يعطوننا "الزريق"، (حليب يخلط بالماء، شراب مفضل لدى كثير من الموريتانيين)
بدت الطالبات أكثر استعدادا من زملائهن لإبداء ملاحظات حول ظروفهن، لكن الحماس القوي للطلاب في التعبير عن ارتياحهم للمعهد جعلهن يتقاصرن عن ذلك.
سألت الطلاب عن لغة التدريس، قالوا "الفرنسية".
الفرنسية وحدها ؟
نعم، الفرنسية وحدها.
ليست لديكم دروس باللغة العربية ؟
لا.
ليس لديكم أي درس باللغة العربية ؟
لا، جميع الدروس باللغة الفرنسية، لكن يسمح للأستاذ أن يقدم شروحا لصالح المعربين (les arabizans) لمساعدتهم.
الامتحانات أيضا باللغة الفرنسية ؟
بالطبع، لكن الامتحانات لم تجر بعد.
كانت الأجوبة بمثابة صعقات كهربائية متتالية.
لم أتوقع أن الإنجاز العلمي الوحيد للجمهورية الإسلامية الموريتانية لا يعترف بأهلية اللغة العربية كأداة لتوصيل العلوم والتقنيات
شعرت بالامتعاض، وخيبة الأمل. كنت أحلم.
تذكرت قول نزار :
" حلمٌ مدهشٌ.. أخاف عليه فلكم كسَّروا لنا أحلاما
والمتنبي :
"وَلَم أَرَ في عُيوبِ الناسِ عيباً كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَمامِ"
كنت أظنه معهدا للزراعة، أو كلية للعلوم، أو مدرسة عليا للمهندسين، في دولة لغتها الرسمية هي اللغة العربية.
قاطعني شخص كان يستمع إلى حديثي مع الطلاب، قائلا :
سيدي هذه ليس طريقة لأخذ المعلومات، يجب أن تأخذ الإذن.
أخذت الإذن.
لا، سيدي هذه ليست طريقة، يجب أن تكون لديك وثيقة مكتوبة تسمح لك بإجراء تحقيق.
سيدي، هل أنت من هيئة التدريس؟ أم من الإدارة ؟
أنا من الإدارة.
عفوا سيدي، أنا لست هنا كي أتلقى دروسا في الصحافة.
هكذا كاد أن يتحول الحديث الودي لموفد وكالة صحفي للأنباء مع طلاب المعهد العالي للتعليم التكنولوجي في روصو إلى مشادة كلامية مع أحد عمال الإدارة، بسبب سؤال عابر عن لغة التدريس.
تابعت الحديث مع الطلاب بدون حماس، قالوا إنهم يشعرون بالضجر أحيانا
أليس لديكم تلفزيون ؟
نعم لدينا تلفزيون، ولكن.
طلبت مني إحدى الطالبات عدم إظهار صورتها في التقرير، فالتزمت بذلك.
لو أن موفد وكالة صحفي للأنباء اتبع نصائح المهنيين التقليديين في الصحافة، لكان بدأ تحقيقه بلمحة تاريخية، وقال إن المعهد العالي للتعليم التكنولوجي في روصو قد بني على أنقاض ثانوية كابولاني، وأن سكان مدينة القوارب لا يزالون يطلقون عليه ذلك الاسم (Lycée Coppolani)، وما سأل عن لغة التدريس في ثانوية كابولاني، بعد قرن واحد فقط من مقتله على يد مقاومة الاستعمار الفرنسي.
نقلا عن موقع صحفي
Very good.
ردحذف