20‏/07‏/2011

حج على قدميه وكفن في إحرامه


ودّع سكان روصو شخصية من أهم شخصيات المدينة، واحشتد العشرات من أبناء المدينة للصلاة على إمامهم ولد الناه عن عمر ناهز التسعين سنة، منها أكثر من 45 سنة في إمامة الجامع العتيق.

كثيرة هي الأشياء المثيرة في حياة الراحل سيدي محمد ولد الناه، ليس آخرها تكفينه في ملابس إحرامه التي احتفظ بها منذ أكثر من 47  سنة عندما عاد من حجته الأولى التي بدأها سيرا على قدميه، طاف في رحلته تلك على عدة بلدان من بينها السودان التي رأى فيها "شجرة التبغ" والطرق المقززة لإعداد  لفائف "آمنيجة " فحمل لها كرها خالدا أبد الدهر.

طوال تلك السنوات كان سيدي محمد حريصا كل الحرص على "كفنه"، لم يكن يفارقه في سفر ولا حضر ولم يكن يسمح لأحد بالاقتراب من صندوق " الكفن". 

في المملكة العربية السعودية واجه الإمام سيدي محمد أول اختبار له مع "المتشددين" جعله يكرههم إلى آخر يوم في حياته، عندما أحرق بعض حرس الحرم المكي نسخة أثيرة من "كتاب نعت البدايات" للشيخ ماء العينين اصطحبها المرحوم سيدي محمد في طريق رحلته إلى الحج.

رفض الشيخ سيدي محمد عرضا من بعض المواطنين السعوديين بالإقامة في الحجاز، مع وعد بمنحه الجنسية لاحقا، مؤكدا أنه "لن يقيم في أرض تحرق فيها كتب الشيخ ماء العينين".

خدم الإمام سيدي محمد مسجد روصو العتيق طوال العقود الخمس الماضية ملازما على الصلوات وعلى خدمة المسجد، لم تكن علاقاته وطيدة جدا لا بالسلطة ولا بالمعارضة .. يحترم الحاكم ويعتقد أن طاعته واجبة وهنا تنتهي العلاقة.

كان رجلا متصوفا حتى النخاع، وطوال إمامته للجامع لم يسمح لأي شخص من "الدعاة" بإلقاء أي كلمة وعظية أو فقهية في المسجد الكبير في روصو، حيث يعتبرهم "مبتدعة وأعداء للسنة"، وفي المقابل رفض في وقت آخر السماح لوفد من وزارة الشؤون الإسلامية إلقاء محاضرات أخرى عن "محاربة الإرهاب والتطرف"، وصرخ في وجههم " اخرجوا من هنا .. جئتم تبحثون عن المال".

لكن سيدي محمد ظل أيضا يحافظ على مبدأ عدم معارضة السلطة القائمة دون أن يهتم بمن يتولاها ولا من يدير شؤونها تبعا لبعض القواعد التي تقول بوجوب طاعة المتغلب.

ظل الشيخ سيدي محمد محافظا على أوراده وعلاقته الوطيدة بحضرة الشيخ سيد محمد التاكنيتي، وكان السفر السنوي كل ليلة 27 من رمضان، لازمة ظل يحافظ عليها منذ  بايع حضرة الشيخ سيدي محمد.

انتقد الإمام سيدي محمد بقوة مظاهر التفسخ الأخلاقي .. ووقف في وجه تمدرس البنات باعتباره بوابة للسفور والتسيب الأخلاقي، وانتقد فوق ذلك دخول التلفزيون إلى بيوت الموريتانيين معتبرا ذلك بوابة أخرى للفساد الأخلاقي.

كان الشيخ سيدي محمد يكره رؤية الأشخاص حليقي اللحى ويهددهم بأن مصيرهم لن يكون جيدا إذا لم يتوبوا إلى الله ويطلقوا لحاهم وفق تعبيره.

ورغم ذلك فقد كان الشيخ سيدي محمد شجاعا مهيبا .. عندما سقطت جوانب من سقف المسجد وتداعى الناس هاربون يوم الجمعة من المسجد .. كان الإمام سيدي محمد يستمع إلى خطبة ابنه الذي ارتبك أثناء فرار المصلين، ليقف سيدي محمد موبخا الفارين ومطالبا الخطيب بمواصلة الخطبة .. عاد نفر قليل .. لكن آخرين لم يسمعوا نداء سيدي محمد لأنهم قد خرجوا بالفعل من المسجد.

يتذكر كثير من سكان روصو عبارة الشيخ سيدي محمد السائرة أثناء إحدى خطبه وهو يوبخ المبالغين في حلق لحاهم "تحلقون أذقانكم وتتركون بناتكم يتبرجن في الشوارع وتطمعون بدخول الجنة .. من الحشيش الأصفر".

بحسب كثيرين فإن تلك العبارة الطريفة ومثيلاتها قد تكون أكثر إفهاما لكثير من العوام والبسطاء وأكثر خلودا في أذهانهم من عبارة طنانة أخرى.

توفي سيدي محمد وغادر الجسم النحيل عالم الأحياء مكفنا في ثياب إحرامه التي احتفظ بها أكثر من 40 سنة. مخلفا وراءه تاريخا مهما من حياة مدينة الشاطئ .. لكوارب.
نقلا عن موقع السراج

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق