19‏/11‏/2010

حبيب الله ولد أحمد يكتب : لكوارب / نقوش دامعة على بوابة الجنوب

الكاتب الكبير حبيب ولد أحمد
لكوارب..روصو..مدينة النهر..بوابة الجنوب..عاصمة ولاية اترارزة..سمها ما شئت، فأسماؤها كثيرة، والعرب يدللون بكثرة الأسماء على علو مقام المسمى، وان شئت فخذ الأسد  مثلا ،فأسماؤه تتجاوز الألف كما يقولون.  مدينة مهيبة بتاريخها وجغرافيتها..
تقفز إليك مع كل مراحل التاريخ الموريتاني القديم والحديث..فالذين صنعوا فقرات ذلك التاريخ مروا بها ومنها ..أو خرجوا منها ذات تاريخ..  مدينة نسجت- عبر العصور- ملامح اللقاء والتعايش بين شعوب شبه المنطقة،منها عبر العلماء والشعراء والسياسيون الموريتانيون نحو الجنوب لتنفتح أمامهم الآفاق الإفريقية الرحبة..واليها دخل الأفارقة من كل حدب وصوب فكان اللقاء الأبدي الذي لحمه الإسلام وعززته قيم الجوار والحب والتعايش.  فى ذاكرة هذه المدينة- الصغيرة بمساحتها وعدد سكانها، الكبيرة بموقعها وعطاءاتها- الكثير والكثير من الأشياء والأسماء والأحداث..فمن ثانويتها العريقة والعتيدة تخرجت شخصيات مدنية وعسكرية وضعت- لاحقا- بصماتها على التاريخ الموريتاني كله..ضباط ورؤساء ووزراء ورموز من مختلف التخصصات والميادين احتضنتهم هذه المدينة وحنت عليهم "حنو المرضعات على الفطيم".   


  فى هذه المدينة يتراقص التاريخ الموريتاني عبر الأزقة المغبرة والشوارع المعتمة..تحكى كل ناصية حكاية من الزمن الجميل..كل ركن في المدينة يستعيد – بصمت- صفحات منسية من التاريخ الموريتاني الجميل.  مدينة لكوارب لا تتنكر للتاريخ الموريتاني وان حاول التنكر لها..لا تنسى الأحداث المهمة فيه وان حاولت تلك الأحداث نسيانها وتجاهلها..وكيف تنسى تاريخا ساهمت فى صناعته وأحداثا عاشتها وواكبتها؟!  


مدينة تعطيك من الدفئ أكثر مما تعطيك من غبار طرقاتها..وتمنحك من الأريحية ما ينسيك لسع بعوضها المرعب.  مدينة التحفت النسيان والصمت عقودا من الزمن، وكأنها لم تكن- ذات تاريخ- مدينة تضج بالعظماء والقادة والسياسيين والمثقفين والأئمة والمصلحين.  مدينة تعلمت من موقعها أن تلوح يمينا مرحبة بالوافدين عبر نهرها المهيب حاملين الطموح الحالم، وشمالا لتوديع العابرين جنوبا بحثا عن أمل وعن متسع للحلم.  وفى يمينها- كما في شمالها -أكاليل ورود، وأقداح لبن، وشيئي من ماء قراح.  تعودت- ومنذ الأزل وكما شرطي المرور- أن تفتح الطريق لكل العابرين من أبناء وطنها وضيوفه..فكانت عبارتها الخالدة عينا لا تنام، وظل بياضها مع سوادها يرسمان على صفحة النهر الهادئة قيم التمازج والعناق الأبدي بين العرب والزنوج الأفارقة.  لم تثنها صعوبة الظروف، ولا نوائب دهرها - الكنود أحيانا- وصروفه السود عن القيام بتلك المهمة..فقدراها أن تظل بوابة الجنوب الصامدة..والتي تحملت من ظلم ذوى القربى أكثر مما تحملت من ظلم الغرباء..وتكالبت عليها طعنات أباطرة المال والسياسة، وغزوات الطامعين والطامحين،ومؤامرات الأقارب والأباعد.  وجهها ظل جميلا بلا مساحيق..فلا أحد أضاف إليه مسحوق تجميل..لا شوارع فسيحة، لا منتزهات، لا بنايات راقية، لا مساحات خضراء، لا ملاعب، ولا حتى مصابيح للإنارة..  


مدينة تركت تواجه مصيرها لوحدها..لم يشفع لها موقعها، ولا أراضيها الخصبة، ولا نهرها الحنون، ولا عباراتها الجميلة، ولا حتى تاريخها الذي لولاه لما كان للبلاد كلها تاريخ يرفع الرأس..لم يشفع لها أي شيء..فبقيت مهملة منسية..اتفق الجميع على أن يأخذوا خيرها ولا يجعلوها وطنا.  اليوم تدخل البلاد نصف قرن من الاستقلال ومدينة لكوارب صامدة صابرة محتسبة، توزع الحنان على الجميع..تحاول أن تظهر البشر والحفاوة والأريحية، غير أن مسحة حزن وعتاب تظلل تقاسيم وجهها الجميل ،الذي لولا بشاشة تقاسيمه لغزته تجاعيد الشيخوخة المضمخة بالظلم والتهميش والنسيان.  مدينة رائعة..تصارع النسيان..تغتسل مع كل صباح بمياه نهرها الحبيب، وتفتح عينيها الناعستين على التلال الخضلة المسجاة بالخضرة والحياة غربا وشرقا، وتستفزها لحد التمايل طربا أصوات القطعان التي اعتادت مع كل ولادة شمس أن تغادر المدينة إلى الضواحي ضاربة في الأرض طلبا للكلا والمرعى.  مدينة تحتضن وبشغف لا حدود له أحياءها ذائعة الصيت..ففي تلك الأحضان الناعمة تلتقي "الصطارة" ب"انجربيل" و"دمل دك" و"مدينة" و"اسكال" كما تلتقي رؤوس اليتامى في حضن أرملة ستينية فقيرة، ذات ليلة خريفية ممطرة، يكاد رعدها يهد العلم كله، ويخطف برقها الأبصار سرعة وقوة ضوء.  صحيح أن أهل لكوارب هجروا مدينتهم، وتفرقوا من حولها..وصحيح أن خيراتها وثرواتها لم تعد ملكا لأبنائها..فالأرز الملتصق بعظام أجدادهم وآبائهم ليس متاحا لهم،ولا يحصلون عليه إلا بشق الأنفس، وقل ذلك أيضا عن ماء المدينة ومرعاها، وحتى مداخيلها الاقتصادية المتعددة الأوجه..  إنها مدينة مظلومة تستصرخ المنقذين والمخلصين ولكن لا حياة لمن تنادى  مدينة لم تفقد الأمل رغم سنوات المحل والمحاق والبؤس ..  مدينة صبرها بحجم صبر أيوب..وموهبتها في البقاء والحياة لا نظير لها..غضب عليها نهرها ذات مرات عديدة لدرجة أنه حاول غمرها بفيضانه إلى الأبد لكنها خرجت من تحت فيضانه بيضاء نقية مغسولة بثلج الحياة وبرد الألق والتجدد..امتدت نحوها مرات عديدة اليد البغيضة للفتن والصراعات السياسية والعرقية والإقليمية ، لكنها ردت الكيد دائما إلى نحر صاحبه ونهضت بشموخ لتعانق دوما ألق الشمس وانسيابية النهر ودفئ الشمس.  مدينة عظيمة تخرج من الرماد والركام - كما العنقاء الأسطورية- لتواصل عزف ألحانها الخالدة في أذن الزمن.  مدينة حولها الانتهازيون من أبنائها وضيوفها وحتى جيرانها إلى بقرة حلوب، يهربون منها كلما لاحظوا فيها ضعفا أو هزالا، يأخذون منها ولا يعطونها ..ومع ذلك لم تغضب عليهم، لم تشح عنهم بوجهها..لم تحاول التملص منهم أو حتى تنبيههم إلى فداحة الجرم الذي ارتكبوه فى حقها.  مدينة تعانق الجميع كأم حنون..لا تسأل الناس إلحافا..لم تسأل يوما أي احد لماذا لم تستثمر ثرواتها لصيانة وجهها المظلل بيأس صبور؟!.


.لم تتوقف يوما للبحث عن أرزها وزرعها ومائها وعائدات عبارتها..وكأنها تعرف أن أبناءها فرطوا فيها، وأحيانا تركوها نهبا للغرباء، فلا تملك إلا أن تتمتم بصمت وادع حنون"لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لنا ولكم".  وفاء هذه المدينة لأهلها وضيوفها لا حدود له..إنها لا تحاسبهم على أخطائهم فى حقها..بل إنها تمنحهم الدفئ والشعور الغامض بالأمان الذي يتملكهم وهم يسيرون فى شوارعها المعتمة وأزقتها المغبرة أو يسكبون المساءات الحالمة على "مير"-ها الصبور.  نصف قرن والبوابة الجميلة العتيدة الصابرة على البأساء والضراء وحين البأس، منسية مهملة تشرب دماء جراح قلبها النازف بصمت، وتدير بصرها الحائر يمنة ويسرة، منادية - بصمتها الخجول- كل أبنائها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ملامح وجهها وألق تاريخها، ونصاعة أريحيتها.  غير أنها لا ترى في الأفق من حولها سوى هذه النقوش الدامعة المنحوتة- كالفقر والضياع والنسيان- على أبوابها الصامدة.

هناك 4 تعليقات:

  1. بعد ماكانت عاصمة انكادس وانيرزبك من انباط الكبلة من لمتون وبعدهم اولاد رزك والترارزة وغيرهم وغيرهم من رجال التاريخ العظام اضحت لكوارب اليوم تحت تصرف مفوض شرطة تنقصه التجربة قادم من مدينة النعمة يجهل تاريخ المدينة ومكانة اهلها فسبحان مغير الأحوال !!

    ردحذف
  2. لاغروياحبيب ان كتبت باسلوب رائع ممتع جميل فانت سليل اسرة تروزية عريقة تربت على اللغة العربية وحبها والرفع من شانها فهنيئا لمدونتنا الجميلة بظهورمقالك الشيق على صفحاتها ودمت وفيا صادحا بالحق والفصاحة القحة

    ردحذف
  3. لكوارب ارض صنهاجية قبل انتكون تروزية وحبيب صنهاجي من بني حسنن قبل تروزيتهه

    ردحذف
  4. بارك الله فيك اخي حبيب الله*و ان مقالك قد ابكانى*
    اخوك محمد ول عبد العزيز ول محمد خيرات

    ردحذف