المحامي/ محمد المامي ولد مولاي اعلي |
تذكر المصادر التاريخية أنه في عام 417 هجرية انخفض منسوب نهر النيل انخفاضا شديدا وأصيبت الأرض بقحط وجفاف قلت معه الأرزاق والأقوات ، فاجتمعت الجماهير حول قصر الظاهر لإعزاز دين الله وهم يصيحون (الجوع ..الجوع.. يا أمير المؤمنين)، وفي سنة 640 هجرية أنكر الشيخ الفقيه القاضي العز ابن عبد السلام تدخل الملك نجم الدين في أمور القضاء وجمع أمتعته ووضعها على حمار وساقه مغادرا مصر فتجمع الناس وراءه و تبعه العلماء و الصلحاء والتجار والنساء والصبيان، حتى كادت مصر أن تخلو من سكانها، فخرج الملك وترضّاه.
تلك هي قوة الشارع وسلطته التاريخية التي بدأ يستعيدها من جديد في عالمنا العربي، حيث نشهد الآن ميلاد سلطة خامسة تفعل فعلها في المشهد السياسي والاقتصادي وحتى القانوني، فبعد أن أطاحت الثورات ببعض الأنظمة العربية وهزت عروش بعضها الآخر، واصل الشارع رقابته على مسار التغيير في هذه البلدان، فهذا المشهد التونسي والمصري شهيدان على ما لعبه الشارع من دور كبير في تصحيح المسار كلما أرادت الأهواء المريضة أن تحيد به عن جادة الطريق القويم، وما يميز سلطة الشارع أنها تتجاوز الحساسيات الضيقة وتجمع كل أطياف المجتمع على قضية بعينها حتى تحقق فيها ما تريد، فالشارع هو الذي أطاح برئيس الحكومة الانتقالية التونسية الأول بعد الثورة محمد الغنوشي خلال 40 يوما من توليه، وهو الذي فرض التعجيل بمحاكمة الرئيس المصري ونجليه، وفرض موقفا شعبيا قويا في مواجهة الاعتداء الإسرائيلي الأخير على الجنود المصريين في سيناء.
وإذا كانت سلطة الشعب تنال عن طريق الانتخابات وتمارس بواسطة السلطات الثلاث المنبثقة عنها –التشريعية والتنفيذية والقضائية – وتواكبها السلطة الرابعة (الصحافة) بالنقد والتوجيه والتوعية، وذلك لا يتم إلا في الأنظمة الديمقراطية ودول القانون والمؤسسات والحريات فإن سلطة الشارع تفرض نفسها فرضا عن طريق المظاهرات والاحتجاجات غير عابئة لا بديمقراطية النظام ولا باستبداده ، فقد شهدنا ما حدث في بريطانيا –موطن الحريات- من احتجاجات ومظاهرات على خلفية ممارسة عنصرية، وما تشهده أنظمتنا العربية الاستبدادية من ثورات.
في موريتانيا بدأ الشارع يساهم في تسيير الشأن العام ورقابته، فلا يخلوا يوم من الأيام إلا ونشاهد عشرات المحتجين يلوحون بلافتاتهم مطالبين بحل مشكل اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، وباتت ساحة القصر الرئاسي (ميدانا) لهذا الحراك، وبدأت السلطات تستجيب فعلا لبعض هذه المطالب .
غير أن سلطة الشارع هذه على ما لها من أهمية وفاعلية وقوة بناءة تستوجب وضعها في الحسابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأنظمة الحاكمة، إلا أنه يحسن تمييزها عن قوة أخرى تكمن في الشارع وتشكل خطرا شديدا على لحمة الشعب وأمنه واستقراره، وهي قوة الفوضى التي تهدم ولا تبني وتفرق ولا توحد، إذ يصعب التحكم في مسار شارع يحوي كل مكونات الشعب على اختلاف ثقافاته ومشاربه وتناقضها وهو ما يحتم الحذر الشديد من الخلط بين السلطة الشرعية للشارع في المطالبة والاحتجاج، وقوته التدميرية التي تنسف الأمن وتقوض الوحدة الوطنية.
المحامي/ محمد المامي ولد مولاي اعلي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق